مقامرة بوتين المتهورة!
فجّر قرار الرئيس فلاديمير بوتين بإرسال قوات عسكرية روسية إلى شبه جزيرة القرم، الواقعة جنوب شرق أوكرانيا، الأزمة الأكثر خطراً في أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي.
في حين أن أوكرانيا وأصدقاءها في الغرب، لا يكادون يمتلكون سوى النزر اليسير مما يمكن به وقف سلوكيات روسيا وتحرشاتها على المدى القصير، إلا أنه بمرور الوقت سترتد مقامرة بوتين المتهورة عليه وستضعف في نهاية المطاف حكمه السلطوي.
وقد تذرعت موسكو للقيام بعملها العسكري في القرم بما سمته قلقها على سلامة كثير من المواطنين الذين يتحدثون باللغة الروسية ويعيشون في شبه جزيرة القرم التي تخضع لحكم ذاتي، لاسيما أن ارتباط هويتهم بموسكو أقوى بكثير من روابطهم بكييف وغرب أوكرانيا.
والرواية الروسية في هذا الخصوص هي أن الإطاحة بالرئيس يانوكوفتيش، المنتخب ديمقراطياً، وما أعقبها من قيام حكومة جديدة غير منتخبة بتولي السلطة، هو ما يمثل أكبر تهديد بالنسبة لكثير من المواطنين في شرق أوكرانيا.
ووصف بوتين ما جرى في أوكرانيا بأنه «غير دستوري» وأنه «استيلاء مسلح على السلطة»، معتبراً أن يانوكوفيتش هو الرئيس الشرعي الوحيد لأوكرانيا. وأكد بوتين أن بلاده تحتفظ بحقها في استخدام كل الوسائل الممكنة لحماية مواطنيها في أوكرانيا، مضيفاً أن أي قرار لاستخدام القوة هناك سيكون مشروعاً.
والواقع أن يانوكوفيتش خرج من السلطة بعد أن أطلق العنان لقوات الأمن في مواجهة المتظاهرين وقمعهم، وهو ما أسفر عن مصرع ما يربو على ثمانين شخصاً أثناء مواجهات في الشوارع خلال الأيام الأخيرة من حكمه.
ويعكس رحيل يانوكوفيتش على عجل، وفي منتصف الليل، فقدانه المصداقية في بلده، كما أن ما أعقب ذلك من اكتشاف مقراته السكنية الفارهة تؤكد أنه كان ديكتاتوراً فاسداً سرق الشعب الأوكراني.
وأيّاً كانت المبررات التي جاء بها بوتين لتسويغ تدخله العسكري في القرم، فلا يمكنه أن يتفادى حقيقة أنه في عام 1994 وقّعت كل من روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة وبريطانيا اتفاقية تعهدت موسكو بموجبها بحماية حدود أوكرانيا مقابل تخلي كييف عن ترسانتها من الأسلحة النووية الكبيرة التي ورثتها عندما تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991.
وعليه، فمن الناحية العملية، فإن روسيا قد انتهكت المعاهدة التي وقعتها، ومن الناحية النظرية يقع على كاهل الولايات المتحدة وبريطانيا واجب تقديم المساعدة لأوكرانيا في مواجهة موسكو. وعلى الرغم من أن ذلك لن يحدث باستخدام قوات عسكرية غربية، فإن هناك عدداً من الطرق التي تمكن رافضي أفعال بوتين من الثأر عن طريق جعل روسيا تدفع ثمناً باهظاً من جراء غزو شبه جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا.
ولا يمكن لروسيا أن تتحمل تكاليف العزلة الدولية أو النأي بنفسها عن النظام الاقتصادي العالمي، بما في ذلك النظام المصرفي، لاسيما أن اقتصادها يعتمد بشكل كبير على العلاقات التجارية والاقتصادية مع الغرب، خاصة أوروبا وأميركا الشمالية.
في حين أشار أوباما إلى أن الولايات المتحدة تدرس سلسلة إجراءات لعزل روسيا اقتصادياً ودبلوماسياً، بسبب تدخلها العسكري في جمهورية القرم، إلا أنه -ولسوء الحظ- هناك أساليب كثيرة يمكن لروسيا أن ترد بها على الولايات المتحدة والغرب، وبصفة خاصة في مشكلات حساسة في الشرق الأوسط، بما في ذلك المحادثات النووية مع إيران، والحرب الأهلية السورية، إلى جانب مستقبل أفغانستان بعد انسحاب القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) بحلول نهاية العام الجاري.
ويمكن لروسيا أن تقرر عدم التعاون مع شركائها الآخرين فيما يتعلق بالمفاوضات النووية مع إيران، وبمقدورها إبطاء الجهود الرامية إلى نزع الأسلحة الكيميائية من سوريا، كما تستطيع منع وصول الولايات المتحدة عبر مجالها الجوي وأراضيها التي تستخدم في دعم القوات الأميركية المتبقية في أفغانستان.
ولهذه الأسباب، تعتبر أوكرانيا أكثر أزمات السياسة الخارجية أهمية والتي سيتعين على أوباما مواجهتها أثناء سنوات إدارته.
ولن يألوا منتقدو أوباما جهداً في مهاجمة ضعفه وعجزه عن مواجهة الواقع القاسي في التعامل مع النهج الانتقامي لروسيا التي يحكمها سلطوي قرر استرجاع المجد المفقود بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وهو الحدث الذي وصفه بوتين نفسه بأنه «أكبر حدث كارثي في القرن العشرين».
والنتيجة المأمولة هي أن يتضح لبوتين ومستشاريه المباشرين العاقبة الوخيمة لأفعاله بشكل سريع، وفي يوم الرابع من مارس الجاري أشار في مؤتمر صحفي -وبصورة مشوشة- إلى أنه هو نفسه ليس متأكداً من الخطوات التالية التي ينبغي اتخاذها.
وأياً يكن الأمر فإن الأزمة الحالية مع روسيا تمثل «صيحة إنذار» لأوباما والدول الغربية لا تقل عن الصدمة التي شعر بها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في عام 1979 عندما غزا الاتحاد السوفييتي الأراضي الأفغانية. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت إدارة كارتر أشد صرامة في علاقاتها مع موسكو، حيث ألغى كارتر مشاركة الولايات المتحدة في دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في موسكو في عام 1980، إلى جانب التركيز على تدشين قواعد عسكرية أميركية في مناطق استراتيجية قريبة من روسيا.
وفي حين أن الأزمة الأوكرانية لن تفضي إلى تركيز مماثل على ردود عسكرية، فإنها ستجبر الرئيس أوباما على استخدام النفوذ الكبير للولايات المتحدة في النظام الاقتصادي الغربي لحمل نظيره الروسي على دفع ثمن باهظ مقابل مقامرته المتهورة في أوكرانيا.